رحلة البحث عن المقالة!

رحلة البحث عن المقالة!

أراد عمرو _ كعادته_ من نفسه شيئا ،فأبت عليه ،فأرغمها ،فرضخت على مضص ،كأنما تتقلب على جمر ،وأخذت تردد : ظالم مستبد ،تخذ مني مملكة وشعبا ،ينهى ،ويأمر ،ويزجر ،ويقهر!.
فقال لها : لا سبيل سوى الطاعة!.
فرمقته مشمأزة ،ثم نكست رأسها ،وأسدلت جفنيها ،واستسلمت للأمر!.
==>
والحق أنها استسلمت ،وما استسلمت ،فما جدوى استسلامها ولما تصنع شيئا بعد?!  ،فقد مرت الأيام ،والشهور _إي نعم و الشهور ،بل و السنين _ ولما تقض من أمرها شيئا!.
لقد ذكرتني بموظفة _ لا بموظف_ بدينة عجوز كسول ! ،في هيئة من الهيئات الحكومية ،تمر عليها السنون وهي قابعة على مكتبها _إي والله على مكتبها_ ،ولات حين مناص!!  ،إنها حارسة الكرسيّ ،وقال قوم:  اتق الله ،بل حارسة الكرسيّ ،والمكتب!!
ما للنساء ،ولهذا?!
==>
على كل لا أريد بذلك إثارة عمرو على نفسه ،فهو مستثار بطبعه ،لا يحتاج إلى من يثيره! .
وما إن سمع قولي حتى أخذ بتلابيب نفسه فزجرها ،وأمرها ،فقهرها ،فاستجابت بعد لأيٍ!.
==>
وكان _ لله دره_ قد أراد منها أن تتذكر أمرا جللا _يحسبه_ ،فإنه كان قد كتب منذ أمد بعيد ،مقالة على لساني كليلة ودمنة مدارها _ وها أنا أذكّرها ،وأذكّره ،ليس منّا عليهما حاشا ،وكلا! _ ،كان مدارها حول علماء السوء ،وأحبار البدعة ،وأنهم كالزيف لا يروج على الصيرفيّ ،والصيرفيّ= السلفيّ!.
==>
أخذتَ بيدي بعيدًا _تحسب_ ،ويكأنها تريد ألا يسمعنا عمرو _ مسكينة!_ ،قالت:
وماذا أيضا?!.
قلتُ : هذا ما أذكره ،بيد أني أذكر أنه كان إبّان هذه الفترة يقرأ في كتاب للرافعيّ!.
قالت:  أجل ،إنه كتاب " تحت راية القرآن" ما أمتعه من كتاب ،رد فيه على طه حسين فأفحمه ،وحزبَه! ،نعم تذكرت فقد كان الأستاذ الرافعي _ عليه شآبيب الرحمة_ قد كتب عدة مقالات على لساني كليلة ودمنة ،يحاكي ما سطره ابن المقفع في غابر الزمان!.
نعم ،نعم ،تذكرت!
ففاجأها عمرو قائلا:  ما الذي تذكرته?!.
فارتاعت حتى ارتجفت بوادرها ،وما إن هدأت حتى قالت:
تذكرتُ ما قلتُه ،وما قاله الكاتبُ ،وهو كاف ،فيما أردتَ!.
فقال لها:  إن الحديث معك غير مجد!  ،وماذا عساني أصنع معك ،اذهبي ،اذهبي!.
فهمستُ في أذنه اليمنى بينما هي عن يساره ،فقلتُ:
وأين تذهب?!.
فرمقني مندهشًا:  حيث ما شاءتْ لا أريدها!.
فتبسمتُ ،هامسًا:  وكيف?! ،دعك من هذا الآن حتى لا يضحك منا أحد!.
فقال متعجبًا:  ومن يسمعنا?!  ،وأخذ يلتفتُ يمنةً ،ويسرةً!.
فقلتُ:  شيطانك!.
فقال : شيطاني?!  ،أو لي شيطاني خاص بي?!.
فقلت : أجل قرينك ،لا يفارقك!.
فقال : فعلام لم يذكرنا بأمرنا هذا?!
فقلت : دعك منه ،فإنه حيثما وجهته لا يأتي بخير!.
والحق أني خشيتُ أن يتدخل في الأمر ،فيفسده ،كما أني لا أحب الشياطين!.
==>
ثم إنه تركنا ،وأخلد إلى النوم ،فرأى فيما يرى النائم  أنه في الغابة ،يسأل عن كليلة ودمنة ،فجالها من أقصاها إلى أقصاها فما وجدهما ،فمن قائل:  لم نرهما منذ أمد بعيد! ،ومن قائل:  لا ،لقد ماتا منذ قرون ،ومن قائل : لا ندري عنهما شيئا ،إنهما خيال في كتاب ،لا حقيقة في غاب!.

ولكن عمرا لم ييأس ،فظل يبحث ،حتى أدركه الغروب ،عند صخرة بجوار النهر ،في أقصى الغابة ،ولا أحد هنالك ،وإذا بذئبين!!.
==>
وجد فوق الصخرة من جهة النهر ذئبين قد ظهرت عليهما آيات الشيخوخة ،وكأنهما في جلستهما قد استكانا للموت ينتظرانه!

فاقترب منهما وأرهف سمعه ،فأدرك من حديثهما قول كليلة:
أتذكر يا دمنة أيام اضرب لنا مثلا ،وأخذا في الضحك!.
قال دمنة:  يا لها من أيام قد أسدينا فيها نصحا لمنتصح!.
ففاجأهما عمرو على حين غرة منهما ،ودون مقدمات ولا تحية ،صاح بهما :
ها أنا أردكما لهذه الأيام الخوالي ،وذاك الماضي التليد ،اضربا لي مثلا!.

فقالا ما هذا المجنون?!
وكيف اقتحم خلوتنا ،أليس للبيوت من عورة?!
أم ليس لنا من حشمة وهيبة?

فقال بصوت خافت:
ما هذا ،أو للذئاب عورة ،وحشمة?!
فسمع صوتا لا يدري من أين ?
لعله شيطانه!  يقول له مستدركا :
وهل للذئاب من لسان ناطق?!
فقال : لولا أني تركت نفسي هنالك ،لظننتها أنت ،على كل قبحتما ،ولا كرامة!.
يقصد نفسه وشيطانه ،لا الذئبين!.

ثم قال : وقُبح هذان الذئبان ،يقولان:  ما هذا المجنون ،ولم يقولا : من هذا المجنون?!

فسمع ضحكا ،وصاحبه_ أي صاحب الضحك_ يقول: هذا ما ساءك ،دون قولهما:  المجنون ،ثم قهقه!.
لا شك أنه شيطانه الذي لم يره!
==>
ثم إن دمنة قام ،فتثاءب ،وتمطق ،ثم هزّ بدنه ،وبصبص ،وأخذ يتمطى فوق الصخرة جيئة وذهابا ،ثم قال لعمرو:
إنا نذكرك منذ ثلاث سنين ،ونيّف ،وكنت قد استدعيتنا في مقالة لك على صفحتك على العالم الافتراضيّ الأزرق _أزرق هو من كل جوانبه_ ،وقد ذهبتَ بالمقالة ،في طي الصفحة ،بضغطة زر حمقاء ،أودت بحياة الصفحة ،ووأدت أبناءها! ،على نجابتهم(1)!.
فتهلل وجه عمرو ،وصاح فرحا:
إذن تذكران هذه المقالة?!.

فقام كليلة:  فصنع ما صنع صاحبه_ لكن على عجل_ ،ثم أجاب عمرا في كلال رتيب:
ليس كلها نذكر!.

قال عمرو : فذكراني بما تذكرا!

قال دمنة لكليلة : هيا لنقضي هذا الأمر ،أو لنقضي عليه هو ،فإنه ممل لن يدعنا! ،فإني أعرفه!!.

قال كليلة : لنستريح من هذا الوجه ،كأنه وجه ذئب!.

قال دمنة : أو لسنا ذئبين?!.
قال كليلة : بلى ،ولكن شتان بين ذئاب ،وذئاب!!
==>
كنت أود _أنا الكاتب لا عمرو_ أن أرد عليهما ،ولكني _ واأسفا! _ ما كنت معه في منامه ،ولكن كان معه شيطانه_ عليه وعليه_ ،فأسلمه إليهما!.

ولا يقولنّ قارئ كيس فطن_ نعم كيس فطن_ ،لا يقولنّ إذا ما طالع ما كتبتُ :

إذا لم تكن معه ،فمن أخبرك?!  ،وما الذي ،ومن الذي أدراك?!.

فالجواب:  أيها الكيس الفطن ،إن الكتابة متأخرة عن الحدوث!  فهمتَ?!
فهذا تنبيه ياأيها الكيس النبيه!
==>
قال كليلة:  ألم تر يا دمنة إلى هؤلاء القوم من الحزبيين ،ما أعظم تناقضهم! ،وأفحش تعارضهم! .

قال دمنة:  وكيف كان ذلك يا كليلة?!
قال كليلة:  في الوقت الذي يحرّجون على أهل السنة تجريح أهل البدعة ،يبيحون هم لأنفسهم تجريح أهل السنة!  ،وهذا يناقض قواعدهم ،وينقض أصولهم!.

قال دمنة : إي ،والله ،مع أن أولئك يتكلمون بحق ،وهؤلاء يتكلمون بباطل ،فأخطؤوا مرتين لا مرة!.

قال كليلة: لا أجد لهؤلاء في غابتنا مثيلا ،إلا أن تكون العقارب ،تندس ،فإذا تمكنت لدغت!!.

قال دمنة : صدقت ،وبررت يا كليلة ،ولكنهم لا يفتؤون يقولون ،الطعن في العلماء ،الطعن في العلماء!.

فضحك كليلة حتى بدت نواجذه ،ثم قال:
أي علماء?

قال دمنة:  فاضرب لهم مثلا ،يعيه البشر ،فيكون لهم عونا ،ورشدا!.

قال كليلة : أرأيت يا دمنة لو أن الناس على كثرتهم أتوا بكل زيف ،وبهرج إلى صيرفيّ حاذق ،فأخذ يخرّق ،ويحرّق ،أليس ينكر عليه الناس ،بل يأخذونه أخذة رجل واحد ،ويقولون يخرّق ،ويحرّق أموال الناس ،وهو في الحق إنما يحرّق ،ويخرّق الزيوف البواطل ،فكان بذلك الصنيع يحفظ على الناس معايشهم ،وحيواتهم?! ،فكذلك السلفيّ الحق ،ليس يروج عليه الزيف ،والبهرج ،وإن راج على غيره! ،ليس يروج الزيف إلا على الزيف ،لا يروج على الصيرفيّ ،أعني السلفيّ!
==>
ثم سكنا كأن على رؤوسهما الطير ،وقد أجهدهما_ على شيخوختهما_ ما بذلا من جهد!  ،فما راعهما إلا قوله_ أعني عمرا ،وما كنتُ ثمة_ قال بصوت شيخ حكيم ،يتكأ على حروف كلماته!:

كلام جيد ،أو جيد جدا ،نعم ،نعم!  ،ولكن كان عليكما  أن تتحركا ،وأن يظهر أثر الكلام على وجهيكما ،فمثلا ينزل أحدكما  إلى حافة النهر يلغ فيه هنيهة ،ثم يستدير فيُقعي ،ثم ينظر إلى السماء ،فيعوي ،ثم ينادي الآخر فيجيبه مسرعا ،ثم…
فإذا بالذئبين يقفزان من الصخرة قفزة ذئب واحد في ريعان شبابه ،فينقضان عليه ،فيحاول الهرب ،ولا سبيل إليه ،فما أنقذه إلا أن قام من نومه فزعا!!
==>
قام فزعا _من نومه في منامه_ يرتجف فؤاده ،ويلتقط بجهد أنفاسه ،وأخذ يهدأ نفسه ،ويستعيذ ،ويسبح ،ويكبر ،وكل ما أدركه من ذكر يعيه أو لا يعيه!  ،وأخذ يمسح عينيه ،ووجهَه ،ثم نظر فإذا شيطانه أمامه يضحك منه ملء فمه ،وقد فتحه كغار في جبل أسود! ،فارتاع ،وأخذه كمثل الموت ،وهمّ يهرول هنا وهنالك ،وكادت روحه أن تزهق ،فأدركه الاستيقاظ مرة ثانية ،ولكنه في هذه قام من نومه الذي هو نومه ،فوجد نفسه _ أو وجدتني_ تحت الشجرة أمام بيتنا ،وعن يميني "تحت راية القرآن" للرافعيّ ،و"كليلة ودمنة" لابن المقفع! ،وقطّان يعتركان ،فزجرتهما ،ففرا هاربين لا يلويان على شيء!.
ثم نسيت كل ما كان  من فزع ،وأخذت أردد:
إن الزيف لا يروج على الصيرفيّ!! الزيف يروج على الزيف!! ،لا يروج على السلفيّ!!*
==>
* هي خيال مشوب بحقيقة ،أو _إن شئت_ حقيقة مشوبة بخيال!!.

==>
(1)_ كانت لي صفحة على العالم الأزرق = الفيس بوك ،وكنتُ قد كتبتُ عليها ما كتبتُ مدة من الزمان ،وكان مما كتبت مقالة على لساني كليلة ودمنة ،ثم إني أردت تعطيلها _ أي الصفحة_  إلى أمد ،فأطحت بها جهلا مني إلى الأبد!!
====>

كتبها
أبو سفيان
عمرو سادات
سلّمه الله تعالى.

بعيد فجر عاشوراء 1439 من هجرة عبد الله ورسوله محمد عليه وعلى آله وصحبه صلاة الله ،وسلامه.

خاتمة الموقع نستودعكم الله