الطفل العجوز!!

الطفل العجوز!!

#قِصَّةٌ_قَصِيرَةٌ

الطّفلُ العَجوزُ!!
=======

… كانت السّماءُ كأنّما انقسمت نصفينِ:
ضياءً ،وظلمةً ،أو جمعت بين الليلِ ،والنهارِ في آنٍ واحدٍ!! .
لقد أشرقت الشّمسُ ،وبددت غيومَ هذا الجانبِ الشّرقيّ ،ولكن لازالَ الجانبُ الغربيّ داكنَ اللونِ ،قد طغت عليه السّحبُ السّوداءُ! يتخلّلُها بياضُ كالشّيبِ!. 
======
وقفت سيارةٌ أجرةٌ يجمعُ لونُها بينَ الضّدينِ = الأبيضِ ،والأسودِ!!
أمامَ بيتٍ من طابقينِ أعلاهما مُضيءٌ تسشعرُ حيويته! ،وأدناهما مظلمٌ ،كأنما كان مهجورا ! .
=======
كان للبيتِ مدخلٌ به بابٌ إلى الطابقِ الأرضيّ ،وسُلمٌ مؤدٍ إلى الطابقِ العلويّ.
فُتح بابُ الطابقِ العلويّ عند سماعِ صوتِ السّيارة! ،وتأخرَ فتح بابِ الطابقِ الأرضيّ!.
=========
خرجَ من ظلامِ الطابق الأرضيّ طفلٌ عابسٌ ،تقطب جبينُه ،وضاقت عيناهُ ،وكان كأنما يتكئُ على حقيبته ذات اليدِ الحديدية! ،وأخذ يسير ببطءٍ ،ورتابةٍ !.
وخرجَ من ضياءِ الطابقِ العلويّ طفلٌ مَرِحٌ يقطرُ بهجةً ،وسرورًا ،قبلتهُ أمُّهُ عند البابِ ،فكأنّما شَحنته وقودَ الحياةِ ،فنزلَ يعدو في مرحٍ ،ووصلَ قبلَ صاحبنا إلى السّيارة!!.
وركبَ السّيارة قبلهُ!.
=====
وقفَ السّائقُ مُبتسمًا ،وقالَ في نفسِه ،هو هو مشهدُ كلّ يومٍ ،ثم فتحَ البابَ ، فركبَ الطّفلُ الشّابُّ ،وانتظرا مليًّا قدومَ الطّفلِ العجوزِ ،حتّى إذا ما ركبَ ،ركبَ السّائقُ ،وانطلقوا! .
======
نظرَ السّائقُ في مرآتهِ الأماميةِ ،فرأى أحمدَ بشوشًا كعادتهِ ،ذا حركةٍ ،يعبثُ تارةً في حقيبتهِ ،ينظرُ تارةً للطريقِ ،والمارةِ ،يتكلمُ تاراتٍ معلقًا على شيءٍ رأهُ ،أو سائلا عن شيء ما !.
وأما حمّاد فكان عبوسًا ،قليلَ الحركةِ ،نادرَ الكلامِ وإذا تكلمَ فكأنما يتكئُ على الحروفِ ، كما تتكئُ عجوزٌ على عصا في مشيها!!.
=======
كانَ صدقي مدرسًا للغةِ العربيةِ ،وكانَ لا يألو جهدًا في تدريسِ مادتهِ ،والقيامِ بعملهِ على وجههِ ،وكان يرفضُ فكرةَ الدروسِ الخصوصيةِ ،ويعملُ فترةَ ما بعدَ المدرسةِ على سيارتهِ الأجرةِ!.
وكان صديقًا لوالدِ الطفلينُ ،وكانَ كلما سئلَ عن التفاوتِ بين الطفلين?! .
مع أنهما لأبٍ واحدٍ في سنٍ واحدةٍ!!.
يضحكْ من قلبهِ ،ويقولُ:
رحمَ اللهُ الرافعيّ!!.
وكانَ دائما يتذكرُ في نفسهِ مقولتَه:

"ابنُ المرأةِ العجوزِ عجوزٌ حتَّى فى الطفولةِ، وابنُ الشابَّةِ شابٌّ حتَّى فى الكهولةِ!.
فيا ضيعةَ الإنسانيةِ مِنْ تأخيرِ الزواجِ! "
  ========
كانَ رواشٌ= أبو الطفلينِ قد تركَ الزواجَ حتّى طالَ عليه الأمدُ ،فقسى جسدهُ ،أو كادَ! ،فأدركَ نفسهُ ،فتزوجَ من امرأةٍ قريبةِ السّنِ منهُ ،تحسبُها أكبرَ منهُ! ،ومضت الأيامُ بلا ولدٍ مع الذهابِ هنا وهنالك للأطباءِ ، بلا جدوى!!.
=========
عرضَ عليهِ بعضُ أصدقائهِ فتاةً يتيمةً فقيرةً ،لعلَ اللهَ يرزقهُ الولدَ ،وقد كانَ! ،وما إن حملت حتّى حملت الأخرى!!.
وغيرةُ النّساءِ تصنعُ معجزاتٍ!!.
========
لقد كانَ يرضعُ هذا من هذهِ شبابَها!.
ويرضعُ ذاك من تلكَ عجزَها!.
ولئن تربى هذا في أعطافِ حركةِ هذه ،ونشاطِها ،فلقد تربى ذاك في أكنافِ ركود تلك ،ومرضِها!!.
فكان هذا يزدادُ من الحياة ،بينما ذاك ينقصُ منها!!
=========
عادت السّيارةُ بعد الظّهرِ ،ووقفت في مكانِها المعتادِ ،ونزلَ الطفلانِ!.
وما إن سمعت أمُّ أحمد صوتَ السّيارة حتّى هرعت إلى النافذةِ ،وما إن رأها ولدُها حتّى هرعَ إليها ،فالتقيا أمامَ البابِ ، فغابَ الولد في حضنِ الوالدةِ!!.
=======
نزلَ حمّادُ من السّيارة ببطءٍ ،واتكأ على حقيبته حتى وصل إلى البابِ ،فطرقهُ مرارًا حتّى فتحت له أمّهُ ،ثم استندت على الجدارِ ،حتّى وصلت لأقربِ كرسيّ ،فجلست عليهِ ،وهي تئنُ!!
=========
مرت السّنونُ ،وجرى فيها ما جرى ،وكان فيها ماكان! .
وذاتَ ليلةٍ ،والأستاذُ صدقي يسير بسيارته في بعض طرقِ المدينة ،إذ شعر بألم في صدرهِ ،فتركه قليلا ،ولكنه اشتد عليه ،فنظر فإذا مشفى الشفاء !.
نزل ،ثم دخلها ،ولم ينظر في اسم صاحبها ،فقد شغله الألمُ!.
=========
جلسَ ينتظرُ دوره ،حتى إذا جاء دخل ،فوجد أحمد رواش ،فالتزمهُ ،ورحب به شديدًا ،وسألَ كل واحد الآخر عن أحواله.
ثم قالَ الأستاذ صدقي : وحمادُ?!.
قال : هنا مريض!.
فضحك الأستاذ صدقي : وقال هو منذ صغرهِ مريضٌ ،ولكن أردت تخرجَ في أي كليةٍ?!.
فقال أحمد : كلية الآثار.
فضحك جدا وعلا صوته ،وما تمالك نفسه ،ثم قال : نعم الآثار ،الآثار ،هي تناسبه!!.
ثم همّ بالانصراف.
فقال أحمد : والألم?! ،والكشف?!. .
فضحك ،وقال : لقد ذهب ،لقد ذهب !!.
=========
ضحكِ أحمدُ ،وأمسك بيده ،ثم قام بما يجبُ فعلهُ.
وقام الأستاذ صدقي للانصراف شاكرا لأحمد حسن صنيعه معه!.
وعند الباب نظر إليه ،وقال:
أتزوجت?!.
قال : نعم ،ومعي محمد و عائشة!.
قال له :
جعلهما اللهُ بركة عليك ،وعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم!.
ثم قال : وحمادُ?!.
فأشار برأسه : ليس بعد!!!
فتأسفَ على ذلك جدّا ،وانصرفَ!.

خاتمة الموقع نستودعكم الله